Monthly Archives: December 2016

#لعلها_تفيد – الحلقة الثانية: كل شئ سيتغير
<الخلاصة في آخر الحلقة>

في مثل هذا اليوم عام ٢٠٠٦ كان تبقى يوم واحد على تلك الرحلة التي لا وصف لها سوى أن طموحك قد أوصلك لها وصارت واقعا. من أكثر اللحظات القاسية هي عندما تفكر قبل السفر بيوم وتتأمل فتدرك أن غدا كل شئ سيتغير. خاصة فيما يتعلق بعلاقاتك.

علاقتك بوالديك ستتحول من رؤيتهم كل يوم والاستمتاع بعطفهم إلى حياة أخرى لن ينفعك فيها سوى الدعاء منهم.

علاقتك بإخوتك .. أخوك الأكبر الذي كنت تخرج معه وتتسامر وإخوتك الأصغر الذين كنت لهم بمثابة موجه أحيانا لن تستطيع متابعتهم كما كنت. سيتربون في عالم لن تراه وسيشقون طريقهم بمعزل عنك وستتبدل شخصياتهم إلى نضج تشكله بيئة لم تعد أنت جزءا منها. ربما فهمت حينها بكاء الآباء والأمهات من فراق أولادهم حين الزواج.

علاقتك بأصدقاء عمرك ودراستك ستتحول من مودة اللقاء إلى بضع اتصالات يتناسب حدوثها عكسيا مع مرور الوقت (تذكر من ١٠ سنوات لم يكن هناك فيس بوك) ..

رواد المسجد الذين كانت تربطكم المودة .. عّم سعيد الذي – يحسبه الجاهل غنيا من التعفف – وكنت تلتمس منه الدعاء ربما تراه مرة كل عام أو عامين. وغيره من الناس الطيبين الراقين.

أساتذتك ومكان عملك السابق … إلخ .. كل ذلك سيتغير كأنك ولدت في عالم جديد.

عند باب المطار ستجعل كل تلك الأفكار القاسية وراء ظهرك وتفكر فيما ستفعله حتى تكون محصلة هذه التجربة الجديدة إيجابية.

هبطت الطائرة في مطار منيابوليس وجلست ساعة أو أكثر في مكتب جانبي يحققون معي ويفتحون اللابتوب لرؤية ما عليه والتأكد من أني لن أزعجهم أمنيا ربما 🙂

لم أكن أعرف أحدا في المدينة .. ذهبت إلى سكني – كانت الواحدة ظهرا – وكان سكني عبارة عن غرفة ضيقة في أحد المنازل – لا تصلح سوى للنوم – وكل شئ آخر مشترك من حمام ومكتب ومكان للأكل والطبخ مع أشخاص آخرين. حاولت أكلم أهلي أطمنهم لكن كان علي شراء أحد الكروت من مكان آخر ففعلت ذلك في اليوم التالي.

أذكر أني كنت شعلة من الحماس والسرور لرؤية بلاد وناس جديدة والتفكير في تلك الأحلام التي ينتظر تحقيقها ولم أفكر في آلام الغربة سوى في وقت متأخر مع نهاية الشهر الثالث.

ذهبت في اليوم التالي للجامعة .. كانت لم تبدأ الدراسة بعد والتقيت حينها بالمشرف لأول مرة. كنت قد راسلته قبلها لآخذ رأيه في الكورسات التي يجب علي أخذها حتى أعمل معه في النظم الدقيقة فأرسل لي قائمة مشابهة بالفعل لما قمت بتحضيره. أغبى شئ عملته هو أني قمت بالتسجيل فيها كلها (٣ كورسات ثقيلة) بالإضافة للدراسة الجانبية مع المشرف.

كانت الكورسات كلها بعيدة عما درسته سابقا وكلها من كورسات الدراسات العليا أو المراحل المتقدمة بشكل عام. ربما مشكلتي الرئيسية أني لم أجد من أستشيره ممن مر بتجربتي .. نعمة فعلا أغبط عليها طلاب كثيرين تتوافر لهم تلك الخدمات الآن وهي والله لا تقدر بمال.

ولعل هذا هو الغرض الرئيسي من تلك الحلقات فهي ليس حكاية شخص ولكني أختار مواقف بعينها فيها دروس – بين طيات أسلوب قصصي – أراها مهمة جدا للمقبلين على الطريق.

كيف اخترت موضوع الدراسة البحثية؟ كيف كانت خبرتي المريرة في الكورسات؟ وكيف اجتزتها؟ وكيف كانت بدايات الصدمة الحضارية بعد أول ٣ أشهر ومع بداية سقوط الثلج وانعزال الشمس من الأفق؟ أجيب عن ذلك لاحقا

أخيرا .. نسيت أن أذكر في المرة السابقة أني في أوراق التقديم حرصت أن أذكر التراكمي الخاص بآخر سنتين في الكلية بشكل مستقل بالإضافة لتراكمي سنوات الكلية الخمسة. لعل هذا يشفع لي ويظهر للجان القبول في الجامعات أن منحنى التغيير عبر سنوات الكلية في الاتجاه الإيجابي.

دروس مستفادة لإخواني الطلاب الجدد:
– حاول تبرز ما يميزك في السيرة الذاتية
– تأهل نفسيا قبل السفر وفكر في التغييرات قبل أن تصدمك
– حاول تحجز السكن بمساعدة أحد من الجامعة أو الاتحادات الطلابية بها حتى لا تصدم
– لا تأخذ حملا شاقا من الكورسات في البداية خصوصا لو في غير تخصصك وخذ رأي مشرفك دائما
– اسأل الطلاب السابقين قدر المستطاع عن خبراتهم وحاول تبني عليها
– تعلم آثار وأعراض الصدمة الحضارية حتى إذا شعرت بها لا تعتقد أنك مجنون
– الرجال يبكون ولا شئ في ذلك .. المهم العمل والاجتهاد .. فقد فات وقت الشكوى

الحلقة القادمة – لحظات التعلم الأولى

#لعلها_تفيد – الحلقة الأولى: عشرة أعوام مضت

في مثل هذا اليوم عام ٢٠٠٦ كنت أجهز حقيبة السفر فلم يتبق سوى ٣ أيام على رحلتي إلى جامعة مينيسوتا بالولايات المتحدة للعمل في الدكتوراة.

قبلها كنت في قمة التوهان. كنت أجتهد مع أحد زملائي لمعرفة متطلبات التقديم. امتحنت المطلوب وكتبت ما يسمى “personal statement” عندما أقرأها الآن أضحك من مستواها الردئ.

كنت عارف المجال الذي قررت العمل فيه. اشتغلت قبلها في رسالة الماجستير على تشخيص وتصنيف مرض توقف التنفس أثناء النوم باستخدام إحدى طرق تعلم الآلة “machine learning” وكان الهدف عمل جهاز يمكن للمريض استخدامه على سريره الطبيعي بدلا من أن يحتاج المبيت في معمل أمراض النوم. ربنا أكرمني بمشرف رائع (د. أحمد مرسي) كان رجع مصر من سنة تقريبا وربنا أكرمني بشخصيتين رائعتين: د. شهيرة لوزة التي كانت ترحب بي في عيادتها لأمراض النوم لأخذ ما أشاء من معلومات وسؤال ما أشاء، ود. هشام حامد في المعهد القومي للاتصالات حينها والذي تعلمت منه كثير من الأشياء في مجال الإلكترونيات. نشرت في الماجستير ٣ أوراق علمية في مؤتمرات خاصة بال IEEE وقبلها بعد البكالوريوس مباشرة واحدة في أول مؤتمر للهندسة الطبية ينظمه قسمنا في جامعة القاهرة.

أثناء البكالوريوس كان تقديري سئ أول سنتين وفي ثالث سنة وضعت هدف أني أحصد تقدير “ممتاز” فجبت تقدير “جيد جدا” وساعتها قررت أن يكون هدفي أن أحصد مستوى “الأول” على الدفعة لأَنِّي كنت عارف أني لو فشلت في هذا الهدف سأكون على الأقل حصدت تقدير “ممتاز” .. في تلك السنة كنت أقرأ وأترجم وألخص من المراجع مباشرة .. حصدت “الرابع” على الدفعة ذاك العام وطبعا تقدير “ممتاز” وذهبت لأقبل يد والدتي وأنا أبكي .. فهمت ساعتها أني لابد أن أضع هدف أعلى مما أريد تحقيقه وأن أعمل له حتى إذا تعثرت سأكون بلغت هدفي. في نهاية التخرج كنت “العاشر” على الدفعة بتقدير “جيد جدا”. ما أشد الندم الذي ينتابني وأنا أفكر في أول سنوات الكلية والاستهتار الذي كنت فيه. ثم أقول في نفسي “لعله خير” .. من حينها وأنا أنبه الطلاب على أهمية التقدير في الدراسة.

نرجع للماجستير .. أثناء الماجستير كنت أفكر في أن ربما الجهاز الذي أحاول عمله ليس هو المستقبل.. ربما علي التفكير في عمل أجهزة دقيقة يمكن غرسها في العضلة التي تراخيها يسبب غلق مجرى التنفس فيصاب المريض بتوقف التنفس وهو نائم. وكنت أفكر في أنه ربما المخ يستشعر من خلاياه قلة نسبة الأوكسجين في الدم ولو الجهاز موجود في المكان المناسب يمكنه قياس إشارة من المخ تدل على ذلك ومن ثم استحثاث إشارة لتحريك تلك العضلة. بسبب هذا التفكير عرفت أن علي العمل وتعلم النظم الكهروميكانيكية الميكرونية (MEMS) ولكن ليس هذا الوقت المناسب حيث علي إنهاء الماجستير وترك ذلك للدكتوراة. كان أكثر جامعة نفسي أعمل فيها هي جامعة ميشيجان ومع مجموعة بعينها هم رواد المجال.

عندما تقدمت بأوراقي – كانت مستواها مهزلة فعلا – قبلت في جامعة بكندا اسمها ماكجيل وجامعة مينيسوتا بدون دعم وجامعة نيويورك بدعم. بقية الجامعات اترفضت فيها. كنت مقدم على منحة فولبرايت وتم اختياري للمقابلة لكن هذا معناه انتظار عام كامل. ما كنت لأطيق الانتظار عاما كاملا .. ماذا سأفعل فيه؟!

كلمت الدكتور الذي أردت العمل معه في جامعة مينيسوتا .. كنت لا أصدق أني سيقبل أن أعمل معه لما عنده من براءات اختراع ونشرات ومشروعات .. طلبت منه الدعم فأخبرني أنه لن يستطيع وأنه مستعد لدعمي بعد عمل دراسة مصغرة معه. حينها أخبرت والدي أني يبدو سأنتظر عاما كاملا وقدر الله وما شاء فعل ربما منحة فولبرايت تأتي. لكن والدي حينها قال لي سافر ولا تحمل هما وحاول تتفوق مع المشرف بحيث يدعمني بعد أول ٤ أشهر.

توكلت على الله واستخرت وكنت معتبر أن على ظهري حمل وأمانة ثقيلة جدا .. ربنا وحده يعلم ..

بدأت في تحضير أوراق السفر وحجزت السكن أونلاين بنفسي فلم أكن أعرف أحدا ولم أكن أعلم أن هناك جمعيات في الجامعة يمكنها مساعدة الجدد.

هل يمكنني الحصول على عمل في الجامعة حتى ولو في المطعم أو أي نشاط تنظيمي؟ هل سأثبت جدارتي في مجال لم أتعلم أساسياته بعد؟ أليست هذه مخاطرة سأدافع ثمنها غال؟ ماذا ستكون نفقاتي الشهرية؟ .. إلخ

كل هذه وغيرها كانت أسئلة تدور في ذهني يوميا ومع كل موقف عصيب في بداية دراستي ومع كل معلومة لا أفهمها بسهولة وأجد أقراني يفهمونها بسرعة لأنها تسلسل طبيعي لدراستهم في البكالوريوس. كان ضغط شديد سيأتي ذكره فيما بعد إن شاء الله.

المهم باقي ٣ أيام على الطائرة .. فلنرم كل هم وراء ظهورنا ولنستعن بالله .. فكلما تذكرت قصص من قرأت عنهم ومعاناتهم هان علي الكثير. ولعل الله يريد بِنَا الخير.