#لعلها_تفيد – الحلقة الثالثة: لحظات التعلم الأولى
عادة قبل بداية الدراسة يكون هناك ندوات توجيهية لمعرفة أهم ما تريد الجامعة منك معرفته. وهذه الندوات في غاية الأهمية فحاول قصارى جهدك حضورها بنفسك.
الندوة الأولى كانت للطلاب القادمين من الخارج وركز جانب من المحاضرة على مصطلح مهم عن الغش العلمي وهو “plagiarism” وفي ذلك الحين لم أكن أعرف المصطلح ولكن فوجئت بجدية المتحدث وقال من خبرته أن الطلاب القادمين من عدة دول لا يلقوا لذلك بالا ولكنه سبب مشاكل كثيرة في الأبحاث ويمكن فصل الطلاب بسببه.
الندوة الثانية كانت تتحدث عن الصدمة الحضارية ومراحلها الأربعة المعروفة. ما أذهلني هو طبيعة المحاضرة والدقة العلمية في تحليل المنحنى الزمني الخاص بمراحل الألم والتأقلم مع المعيشة الجديدة. عرضوا حينها فيديوهات لطلبة وهم في بداية انضمامهم ثم حين حدوث الصدمة ثم بعد زوالها. شئ مذهل.
المنحنى كان يظهر أن قمة الصدمة تكون في حدود الشهر الثالث. وبالرغم من أني في لقاء مع المحاضر ذكرت له أني لا أشعر بأي غربة والحياة هنا سلسة وخلاف ذلك إلا أنه قال لي ما معناه “كلهم يقولون ذلك في البداية”.
بالفعل في الشهر الثالث بدأت أشعر بكل شئ يتراكم فوق صدري لكن إضافة لألم الغربة والصدمة الحضارية كان عندي آلام أخرى شديدة أحدها كثر التفكير في مصيري إذا لم يقم المشرف بدعمي وأحدها خاص بالكورسات التي مع سهري على مذاكرتها وقلة نومي إلا أني كنت مرعوب لأن بعض زملائي في الفصول كان يظهر لي أن ما نأخذه شئ غير جديد لهم مع سرعة استيعابهم لأي جديد. فكنت أخشى من التقدير النهائي وعواقب أني غيرت تخصصي للهندسة الكهربية.
عشت هذا الرعب أربعة أشهر كاملة هي ربما الأكثر قسوة في حياتي حتى الآن ومع ذلك لم أشارك مخاوفي مطلقا ولم أشك لبشر منها. وكان لسان حالي كما قال أحدهم:
بعثرتني ذات حـــــــــــــــزنٍ .. لوعةٌ عاثت بجــفني
ألهبت صبري وزادت .. من همومـــي فوق همي
كل شيءٍ بات يشكـــــــــــو .. من هُزالي غير أني
قاصرٌ عن وقف دمعي .. تائهٌ عن وصف حالي
إنني وحـــــــــــــــــدي إلهي .. فلتكن أرجوك قربي
متعــــــــبٌ يا ربي فأرحم .. حالتي ولترضى عني
كي تعود الروح تســـــــلو .. وليُروى زهر سعدي
إن تكـــــــــن راض فحسبي .. أن ربي قد رعاني
مع قسوة تلك الأشهر إلا التذلل لرب العباد دون العباد كان أمتع ما فيها. لعلك تسأل لماذا أذكرها الآن؟
حتى يعلم الطالب الجديد أنه سيأتي وقت يعتصر قلبك فيه الهم والغم .. في ذلك الحين حاول أن تتماسك بكل ذرة قوة وإيمان وتذكر هدفك ودع عنك كل ما ليس لك به تحكم.. فليكن الدعاء والخلوة والعمل حلفائك .. وربنا سيكرمك بدون ذرة شك .. ومن رزق واسع كتبه لك لكن أنى لك أن تعرفه. ورسالة لأصدقائك وأهلك ليعلموا أن كل مغترب للرزق هو أضعف مما قد يبدو عليه وعلى الجميع دعمه ولو بالكلمة الطيبة.
نرجع لكورسات الفصل الدراسي الأول وهذا الجزء موجه لمن سيعمل في تصميم الدوائر والنظم الدقيقة.
الكورس الأول كان عن تصميم الدوائر الأنالوج المدمجة وكان من يدرسه دكتور هندي – عزيز علي وصديق حتى الآن – اسمه راميش هارجاني. شخصية رائعة مع أن متوسط الدرجات عنده حينها كان ٣٠٪�!! يعني تجد من يحصل على ٥٠٪� هو أحسن طالب في الفصل 🙂 حاجة تعقد. الكورس كان مثل ساندويتش الديناميت .. دسم جدا لدرجة أن في نهاية الكورس أخذنا محولات الأنالوج لديجيتال.
صداقتي بدكتور هارجاني نمت بسبب أني كنت لا أفوت أي ساعة مكتبية له. حتى لو لا يوجد عندي سؤال كنت أستمع لأسئلة غيري محاولا الاستفادة قدر الإمكان. وساعتها عرفت مقدار القصور الذي عندي وحزنت بشدة لكني اجتهدت قدر الإمكان في القراءة وعمل الواجبات.
الكورس الثاني كان متعلق بالصناعات الدقيقة ودرست فيه الطرق الحديثة والمعادلات الحاكمة لتصنيع الترانسيستور والشرائح الدقيقة. والكورس الثالث عن تصميم الدوائر المدمجة الكثيفة (ديجيتال)
كنت ذكرت أن من الغباء أني أخذت ٣ كورسات فعلا صعبة لكن الاختيار نفسه من حلاوة الكورسات والاستفادة العظيمة منها فعلا محير. الكورسات في الجامعات الأمريكية عموما كنز ثمين .. كنت أسمع أنهم بمجهود كورسات سنتين يحصلون على الماجستير فأسخر منهم .. أما ما رأيت وعاينت اختلفت وجهة نظري تماما لأن بالفعل المجهود المبذول فيها لا يقل أبدا عن الماجستير البحثي.
بالإضافة للكورسات كان علي عمل دراسة بحثية مع المشرف. عرض علي عدة موضوعات معظمها كان شيقا لكن أحدهم لفت نظري وكان متعلقا بعمل نظم ميكرونية غزيرة كل منها بحجم حبة الملح يمكننا غرسها داخل المخ لتسجل إشارات الخلايا العصبية وترسلها لمحطة مركزية داخل المخ ومنها إلى الكمبيوتر بشكل لا سلكي. وكان هذا المشروع جديدا وليس به معلومات مطلقا ولم يعمل على فكرته أحد. لم أتردد كثيرا واخترت هذا المشروع وتفاجئ حينها المشرف من الاختيار لصعوبة المشروع مقارنة بالآخرين. في الواقع كان اختياري متوافقا مع ما كنت أرغب في عمله ومع الكورسات التي قررت تعلمها ولم ألتفت كثيرا لكون المطلوب في المشروع أشبه بالخيال العلمي. سأتحدث لاحقا عن المشروع – والذي استمتعت به جدا – في الوقت المناسب.
كذلك باءت محاولاتي في البحث عن وظيفة بالفشل خاصة أنه غير مصرح لطلاب فيزا F1 بالعمل سوى في نطاق الجامعة. كل الوظائف في المطعم والأنشطة الطلابية وغيرها كانت ممتلئة.
الضغط وصل لذروته والرعب من شبح الفشل يطاردني من كل اتجاه .. غربة .. دراسة صعبة .. كورسات تحتاج مجهودا خرافيا من غير المتخصصين مثلي.
لكن سأختم ببشرى 🙂
من فضل الله حققت تقدما في الدراسة البحثية واستطعت مع مشرفي تقديم مقترح بحثي لمركز الهندسة العصبية في الجامعة وتم اختياري لمنحتهم … حينها تغيرت الدنيا في نظري وصرت أكثر ثقة في نفسي وعملي. والحمد لله رب العالمين.
أما الكورسات فمع الأسف قصرت في أحدها وكان تراكمي الفصل الأول “A-” ومنذ ذلك الفصل القاسي توالت النعم والابتلاءات لكني لم أقل عن “A” بعد ذلك. وأصبح لي مرتب أستطيع أن أعيش به بشكل متواضع يعرفه كل من درس قبل ذلك 🙂
ما يهم الطالب هنا أن عمله في بحثه مع مشرفه أهم من الكورسات وتقديرها بكثير. لكن تقدير الكورسات يكون في أغلب ما ستتقدم له من وظائف بعد ذلك عاملا مساعدا. فحاول أن توازن وتختار أولوياتك جيدا.
إن مع العسر يسرا
ما زال لنا حكايات عن العسر واليسر في حلقات قادمة .. فحياة طالب العلم ليست وردية وليس للنجاح أو الفشل منتهى عنده نزعم أننا نجحنا أو فشلنا. إنما هي تراكمات تنتهي بموتك ومنها ما يبقى لما بعده.
مصادر:
١) الغش وأخلاقيات البحث: شاهد هذه المحاضرة
٢) معلومات عن الصدمة الحضارية
https://en.m.wikipedia.org/wiki/Culture_shock