عندما هبطت الطائرة في مطار المدينة المنورة لم يخطر في بالي سوى أنني في رحاب أول بقعة عرفت معنى الدولة في الإسلام
المدينة قصة نجاح يجب أن يتأملها ويعرفها ويفهمها الجيل الذي يبحث عن الخلاص وعن تغيير العالم
لابد من فهم المقدمات والمعاناة ثم الهجرة والبناء ثم التوسع والانتشار .. وكل ذلك مع ثبات في المعتقد وحسن في الخلق من نبينا صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم
أدخل المسجد مرتعدا .. لم أسر بنعم الله الكثيرة علي بقدر سروري عند دخول المسجد
المسجد بالنسبة لي ليس مضاعفة في الثواب وحسب ولكني أطيل التأمل في قصته .. وكيف كانت بدايته بالحصى والرمل وسعف النخل
ومع فخامة بنيته الآن إلا أن قلوب من بنوه أول مرة هي التي تستحق التفكر .. فعلى قلة من كانوا آنذاك عددا إلا أن أثرهم أعمق من مجموع من دخلوه بعدهم حتى وقتنا هذا
صعب هو وصف شعوري عند الدخول .. خليط ومتواليات من المشاعر .. أفتقد ذاك الزمان الذي طالما قرأت عنه .. أهاب رب المكان من عظمته ومن السكينة التي يلقيها في قلوب المحبين لرسوله الكريم
يؤذن المؤذن لصلاة الفجر فأقول في نفسي “ياه لو كان بلال بن رباح رضي الله عنه”
وتقام الصلاة ويبدأ الإمام بقول “استووا .. استقيموا واعتدلوا” .. فأتشوق وأقول “لو كان رسول الله عليه السلام هو من يؤمنا .. ”
وبعد انقضاء الصلاة قصص وخواطر عند الوصول لمنبر رسول الله عليه السلام ثم بيته .. ربما يحين وقت مشاركتها قريبا
بعد انقضاء صلاة الفجر يجلس كثير من المصلين حتى شروق الشمس ابتغاء الثواب “حجة وعمرة”
ويبدأ البعض في الزحف في أفواج نحو منبر الرسول عليه السلام ليصلوا في روضة من رياض الجنة ويدعون ربهم فيها بما يريدون
المنبر عال ومطلي بلون ذهبي (وكذلك أعمدة المسجد)
لكن لا عليك من تلك المظاهر .. فقط أغلق عينيك واخترق نطاق الزمن وتذكر أن في تلك البقعة كان الرسول عليه السلام يعلم ويدعو ويوجه ويبني ويأتيه الوحي ويخطب ويصدر القرارات ويقود رعيته خير قيادة
كان منبرا بسيطا من ثلاث درجات ومن قبله كان يخطب عليه الصلاة والسلام مستندا لجذع بكاه بعد ما تركه إلى المنبر
تجلس في أي مكان في الروضة وتتأمل في من سجد في تلك البقعة من الصحابة .. نعمة كبيرة أدعو الله أن يكتبها لكل مؤمن
كم من العظماء جلس وتعلم وعلم في تلك المساحة التي ربما لا تتعدى ٢٠٠ متر مربع؟!
تخرج من الروضة تجاه باب البقيع لتجد بيت النبي عليه السلام والغرفة التي دفن فيها
ما هذا التواضع في العيش؟
النبي الذي بلغ عنان السماء ذكره وأتباعه الآن بالبلايين عاش ومات في تلك البقعة الصغيرة المساحة العظيمة الأثر
أول ما خطر في بالي وأنا أزور قائدي وقدوتي نبي الله عليه السلام هي أن أصلي عليه وأشهد ربي أنه بلغنا رسالته وأدى الأمانة
بنى مجتمعا لو اتبعنا خطاه لبنينا مجتمعا عظيما
ما الذي حدث لنا الآن نحن المسلمون؟
سؤال يجر الخواطر والعبرات
لن أستطيع سرد ما جال بخاطري لكني أرجو أن يستخدم الله جيلنا ونفهم ونطبق ونبني مجدا ومجتمعا يؤثر بالعدل في البشرية
فقد خسر العالم كثيرا حينما قاد غيرنا مجريات الأمور
أفقت من خواطري على مكان أبي بكر الصديق خير الصحابة ثم عمر بن الخطاب أمير المؤمنين وكم أتمنى أن أراهم وأن يرزقنا الله بمثلهم حكاما لنا
صعب على القلم ترجمة ما في الوجدان لكن مجتمع النبي والصحابة هو خير مثال نقتدي به
عايزين نغير العالم وننشر العدل
عايزين نعمل شركات وجامعات تؤثر في الكون
عايزين نترك أثرك يجعل لنا قيمة لمن بعدنا
كله هذا يحتاج إصرار وإيمان ولا أفضل من أن نقتدي بأعظم مجتمع عرفته البشرية
المجتمع الذي بدونه ما كنا عرفنا الإسلام
ربنا يعيننا جميعا على ترك أثر ومجتمع قوي وأن تكون عيشتنا بسيطة
ربنا يجعل لنا لسان صدق في الآخرين
التأمل لا ينقطع ولا ينبغي أن ينقطع
المدينة ما زال بها جبل أحد ومسجد قباء والقبلتين.. طوفوا بهم بقلوبكم
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
في روضة من رياض الجنة جلست وأمامي منبر الرسول عليه السلام
تخيلته وهو يقود ويأمر ويناديني بأمر أن أفعل كذا وكذا وكان مجرد تخيل كم حزنت أنه ليس واقعا
كم نفتقد للقدوة وكم نحن بحاجة له يوجهنا بما ينبغي أن نفعل حتى نضمن رضا الله
النبي عليه السلام ترك لنا الكتاب والسنة لكن وجوده بيننا كان سيعني الكثير بالتأكيد
تذكرت حينها حجم المصيبة التي حلت بالصحابة حين مات عليه الصلاة والسلام
يا رب نكون على الطريق ولا نتوه أو نضل
يا رب نكون مجتمع قوي يرفع الهوان الذي نحن فيه الآن
وجدتني في تلك الروضة أدعو لكل متطوع بجهد وعلم أن يرزقه الله الفردوس الأعلى ويبارك في وقته
والمتطوعين الذين أعرفهم ذكرت أسماؤهم اسما اسما .. متطوعين في شتى البقاع أرجو الله أن يوفقهم في رسالتهم .. ربنا يكرمهم برفقة حبيبنا صلى الله عليه وسلم هم وأزواجهم وذريتهم
هم يعرفون أنفسهم
أتمنى ألا يكون هذا آخر عهدي بالمسجد الذي منه أنارت الأرض ولا تزال تنير
ربنا يجعل لنا لسان صدق في الآخرين
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم